الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
فهرس المقال
- الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
- في أبستمولوجيا الفكر الحركي
- الفكر الإيماني
- الفلسفة الفكرية لدى كُولن
- الدين ومخاطر الوقوع في الفكر الدوغْمائي
- بين الدين والأيديولوجية
- مقومات فكر كولن
- التراث الإسلامي وأصالة الاقتراب العقلي
- قراءة في فكر كولن
- فكر الآلية، وفكر التمرس
- مكانة الفكر في رؤية كولن
- الأهداف والغايات التي سدد نحوها كولن
- الإرث القدسي المتوارث
- كولن وحديثه عن أمة القرآن
- جميع الصفحات
بين الدين والأيديولوجية
تُرى فيمَ تختلف الأيديولوجية بمظهرها السياسي عن الدين الحق؟ وهل الإنسان المتديّن إنسان متأدلج بالفعل؟
قلنا إن الأيديولوجية تتميز بالصبغة الاعتدادية، وبالمخصوصية العرقية، والوطنية، والفكرية؛ أمّا الدين الحق فإنه شمولي الروحية، يتعالى عن المخصوصية، إذ ينفتح على العالمية، فهو إنساني بتطبيقاته واجتهاداته، من هنا يضحى الفرد المتدين (بالدين الحق) فردًا إنسانيًّا في روحه وأخلاقه وقناعاته، وإذا لم يستطع أن يبلغ هذا المستوى من التسامي، ظلّ تديّنه صوريًّا، ناقصًا. من هنا وجدنا المتديّن بدين الإسلام كائنًا إنسانيًّا بالقوّة والفعل، ليس لأنه ينيط وجدانه بحبّ الأمّة فحسب، (مفهوم الأمة في الإسلام مفهوم استيعابيّ يتّسع للأقوام والأمم والجماعات، بغضّ النظر عن أعرافها وسلالاتها وألوانها وألسنتها)، ولكن لأنه يستوعب بإيمانه باقي الديانات التي توحّد الإله (المطلق) ربّ العالمين، بل ويشفق حتى على عبَدة الوثنيات، كما تذهب إليه بعض الاجتهادات الإسلامية.[15]
لقد تميّز الإسلام بطابعه الأممي، حيث لا يقصر الله -عز وجل- ربوبيته على عرق مخصوص، وحيث إن المخاطَب في الإسلام هو الإنسان مطلقًا (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)(الانْفِطَار:6-8)؛ وحيث إنّ سمة "مسلم" تطلق -في الحقيقة القرآنية- على كلّ مَن يتّبع نهج التوحيد الذي شقّ طريقه أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-، وتَوّجه خاتمُ المصطفين محمد -صلى الله عليه وسلم-. لذا كان -وسيكون- الإسلام بالنسبة للبشَرية هو الدين الأرحب الذي سيظلّ مفتوحا في وجه الأمم بسماحته وأصالة ضوابطه؛ ولذا أيضا كانت الدعوة والتبليغ من واجبات المسلم مهما كان مستواه، ينهض بها ما وجد إلى ذلك سبيلاً، لا لأجل تحقيق مطمح عرقي، أو مأرب كسبي، أو مقصد اعتباري، وإنما رحمة للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107)، فالمخاطب هنا هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو -بالتبعية الإيمانية- كلّ فرد من أمّته تَمثَّلَ العقيدةَ، وبلَغ درجة الإحسان.
العقيدة الأيديولوجية تعتمد مدوّنة ترجح الكيانات والخصوصيات الفئويّة المغلقة، وتعطيها الأولوية على ما سواها، بينما المدونة الدينية القدسية تضع الإنسان -مطلقا- في صدارة توجهاتها، وتحدد مشروطية إنسانيته على صعيدَين اثنين.
الصعيد الأول: إرساء علاقة العبودية مع الله رب العالمين، الأمر الذي يرسخ حرية الإنسان وعدم خضوعه لأيّ قوة أخرى في الكون مادية ومعنوية، إلا قوّة الله، فهو الموجد والرازق والمحيي والمميت -جل جلاله-.
الصعيد الثاني: تأكيد المآل الأخروي للمخلوق البشَري، الأمر الذي يجعل الإنسان يعيش الدنيا بوصاية أخلاقية حيال الكون،[16] ومن غير ما تهافت أو تهتك، إلا إذا زاغ وضلّ واعتبر تجربة الوجود تجربة عبث لا طائل من ورائها. فبالإيمان يستشعر الإنسان أنه مسافر، وأنه لا محالة سيعود إلى موطنه، فهو -من ثمة- أحرص على أن يرجع غانِمًا.
إنّ مِن شأن إرساء هذه الروحية الأخروية في الضمير الإنساني، أن يجعل الإنسان يعيش الحياة بفكر مسؤول وروح محتسبة، وهذا من خلال إيقانه من أنّ رحلته الدنيوية هي مجرّد مقدمة لاستقرار أبَدي، مصيري، يتلقى فيه الجزاء عما قدّم من عمل (صالح أو غير صالح).
ومن الواضح أن كِلا المدوّنتين الأيديولوجية، والدينية (الحقّ)، تُحَكِّم سلطانَها في الأتباع؛ إذ الصبغة المرجعية لمضامينهما التوجيهية تجعل الأتباع في موقف مَن يجسّد الإلزامات لا مَن يتصرف فيها، وإن فوقية التعاليم توجب عليهم التسليم والتقيد بالحدود.
على أن الفارق الجوهري هو أن المدونة الأيديولوجية تشرطها الرؤية القيمية المنغلقة، فتظلّ معاقة عن التفتّح على الآخرين. فهذه الرؤية حتى لو حاولت أن تتطور في اتّجاه إنساني سمح، فستظل عرضة للتفكك، لأن كل مسعى يهدف إلى التخفف من الصبغة الأصولية يغدو علّة انشقاق بين الأتباع، ينتهي بالمجددين إما بالخروج عن مبادئ الأيديولوجية، وإما بالتكمّش والبقاء في شكل مجاميع محصورة المساحة، لا تأثير لها، ومصيرها مجهول.
لكن الأمر مع العقيدة الدينية الحق (الإسلام) يختلف، إذ سواء أثبت الأتباع في عقيدتهم على حرفيه النصوص والْتزموا بصميم أصوليتها (تشددوا)، أم توسّعوا في استقرائها -إيجابيًّا- واجتهدوا في استنطاقها تيسيرا وتسهيلا، فإن الناتج في الأحوال جميعًا واحد، إذ إن مبادئ العقيدة الإسلامية مبادئ إنسانية، ومُثله مُثلٌ تكريمية، الآدمي بمقتضاها مشرّف من قِبَل الله، مستخلف في الكون، يستمدّ قوته من قوة الله خالق الخلق، ومسطرة الجزاء والعقاب تسري على الآدميين جميعا بمنطق واحد ومعيار مشترك.
الخلاف بين المتشدد في الإسلام والمُتسَهِّل، ليس حول مبدإ الانتماء إلى العبودية لله (فالرّب رب العالمين)، إنما الخلاف حول مستوى ودرجة الالتزام بمبادئ شرع الله. وإن الدعوات التكفيرية هي تطرّف لا يعبّر عن جوهر الآية (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(الكَافِرون:6).
وعلى العكس من ذلك فإن الْمُوسَويّة تمنع الانتماء التعبّدي مبدءا، فلا يحقّ استيفاء مقام التهوّد إلا لمن استوفى شرط العرقية (يهوديّة الأم)، لأن وراء المعطى الديني شرطا أيديولوجيًّا، عنصريًّا، وبذلك تختلّ المعادلة ويضيع البعد الإنساني فيها.
إن الأيديولوجية توجّه النظر والوجدان نحو أهداف السلالة والحزب والعُصبة، وتربط الحشود بمنحى فكري أصم، وتُفعِّل ضميرهم نحو إكبار الذات الجمعية، بعد أن تضفي على تلك الذات صفات الامتياز والمخصوصية، بينما العقيدة الحق توجّه الروح والقلب والضمير نحو تعظيم الله خالق الخلق والأكوان، وتغرس في الأتباع مبدأ تلازم واجب تعظيم الخالق مع وجوب تعظيم خلقه وإيلاء الرحمة والرأفة لمخلوقاته كافة.
وقد تأخذ الأيديولوجية صبغة استغلالية شمولية، فتدين بمنطق القوّة والهيمنة والانتهازية، وهو ما تجترحه العولمة في ثوبها الغربي الأصولي (الكتابي المحافظ).
ولقد استفاض الأستاذ كولن في استقصاء الفوارق التي تميز الدين الإسلامي وتفرده عن الأيديولوجيات الدنيوية، وسجّل مواطن الاختلاف بينهما في كثير من مكتوباته كما سنعرض لذلك بعد قليل.
إن مقاصد الأيديولوجية -في التحليل الأخير- هي مقاصد دنيوية نفعية، تمايزية. إنها ترجّح العاجلة على الآجلة، والحصريّ على الشمولي، فيما مقاصد القرآن أخروية، احتسابيّة، شمولية، فالعمل الصالح في الحياة يكفل سعادتي الدنيا والآخرة.. ولا أهمّية لمكاسب الحياة إلا على قدر ما تُجَسِّدُ من مصْداقية الإيمان بالله والعمل الصالح الذي يستهدف المخلوقات جميعًا، ولا يميّز بين العباد، ذلك لأن رؤية المسلم للحياة رؤية موصولة بالآخرة وبالغيب والمابعد، من هنا كانت واقعة الوجود بالنسبة للمسلم مسترسلة، أبَدية، تبدأ بالحياة الدنيا، دار العمل، وتنتهي بالدار الآخرة، دار الحصاد.
البعد الأخروي بُعد فاصل وفارق بين المدوّنتَين الأيديولوجية والقرآنية، وإذا كان لفظ "الآخرة" قد تكرر في النص القرآني بصورة ضافية، فهو شبه غائب في أسفار العهد القديم.
الأيديولوجية تحتسب المكاسب الدنيوية، فهي تقيس نجاحاتها بما يتحقق لها في مضمار الرأسمال والنفوذ والهيمنة في الأرض (السلطان الأرضي).
العقيدة القرآنية تحتسب نجاحاتها بمقدار ما ترصده للآخرة من ثواب، دون أن تتهاون أو تفرط في مكاسب الدنيا من الحظوظ الحلال (وإخلالها بهذا الشرط سبب لها الحطة والضعف والتقهقر الذي نعيش نتائجه اليوم)؛ إذ إن الاستثمار للآخرة يتحقّق بالكدح الدنيويّ، ولا غرابة أن يقرن القرآن الإيمان بالعمل الصالح في لازمة مركزية من لوازم النص القرآني: (اَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
وإن الإيمان الذي يعْنيه القرآن هو الإيمان بالربّ خالق الأكوان (الربّ الذي لا حاجب دونه، ولا حاجر، ولا وصيّ). وكذلك يعني بـ"العمل الصالح" كلّ جهد تتحقق به مأمورية الاستخلاف في الأرض، أي مسؤولية الإنسان حيال أخيه الإنسان وحيال الموجودات طرا، إذ حتى البيئة وما يعمرها من عوالم حيّة، يجب أن تشملها مسؤولية الإنسان، متى ما سما إلى مطمح تَبَوُّء مكانة الاستخلاف في الأرض.
- تم الإنشاء في