الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
فهرس المقال
- الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
- في أبستمولوجيا الفكر الحركي
- الفكر الإيماني
- الفلسفة الفكرية لدى كُولن
- الدين ومخاطر الوقوع في الفكر الدوغْمائي
- بين الدين والأيديولوجية
- مقومات فكر كولن
- التراث الإسلامي وأصالة الاقتراب العقلي
- قراءة في فكر كولن
- فكر الآلية، وفكر التمرس
- مكانة الفكر في رؤية كولن
- الأهداف والغايات التي سدد نحوها كولن
- الإرث القدسي المتوارث
- كولن وحديثه عن أمة القرآن
- جميع الصفحات
في أبستمولوجيا الفكر الحركي
لا مشاحة في أن لكل مَنْشَط فكريٍّ غايةً ينشدها ووظيفية يتوخاها، أقلُّها تفسير ظاهرة ما، أو تفحص إِشكال بعينه، أو تأمل حيثية من الحيثيات الواقعية أو التصورية. فحتّى التفكير في المطلق وفي اللاّموضوع، يقصد متعاطيه إِشباع نَهَمٍ داخلي، أو إِسكات حيرة جاثمة، أو الاستعاضة عن ميوعة الواقع الحيّ بواقع آخر افتراضي تجنح الذهنيةُ إلى ارتياده، لِعِلَّةٍ من العلل، أو تحت باعث من البواعث الملحّة.
وإذا كانت شُعب الفكر قد تنوّعت مناهجها، وتعدّدت مشاربها، فلا شكّ أن هناك اتّجاهين يُعتبران أظهر الاتجاهات الْتصاقًا بالإنسان، وأشدّهما إلحاحًا عليه لطابعهما العملي المتجاوب مع ما جُبلت عليه النفوس البشرية من ذاتية ومن منازع أنانية نفعية. والاتجاهان هما الفكر البراغْماتي والفكر الدوغْماتي.
الفكر البراغماتي مثل الفكر الدوغماتي، كلاهما تسود نهجَه اندفاعةُ النعرة العارضة، وتخدع دُعاتَه الاستثارة الحشودية المنفعلة، وتسكرهم أعراض الوقفة والنجاح الموْسمي الزائل؛ إذ يشغلهم الغرور عن أن يتبصروا ويقرأوا للعاقبة حسابها، لأن ما يتولد من مناهج وسياسات تفرزها رؤى استئثارية مسعورة، وتراهات استعلائية رعناء، وفلسفات مجرّدة من الأخلاق الكريمة، لا يمكن أن يدوم؛ إذ ما أن تزايل رعيلَ الروادِ فورةُ الحماس، حتى يستتب الفتورُ وتعمّ الرتابة والتسيّب المفضي حتما إلى العقم والبؤس المعنوي، وتنطفئ الحمية.
البراغْماتية تحكمها عقليةُ النُّهْزةٍ، وروحُ الظفر المتعجل، والمقاصد الاستئثارية. البراغماتية -في العصر الحديث- وليدة المكْيافيلية، ومجالها ليس الحقل السياسي فحسب، وإنما تشمل الأخلاق والأواصر والقيم عامّة. إن المكيافيلية شجرة شؤم، أنبتت[2] غابة كاملة من المناهج الذرائعية والمعارف المعاكسة للمنطق السوي والحسّ السليم.[3]
وبدورها الدوغمائية تعني الانسياق الأعمى وراء الفكرة الجاهزة، والخطّ المرسوم، والإذعان للأمر الفوقي. إنها تقوم على خطة تفريغ عقل الفرد من دينامية النظر، وتجريده من الحق في التقدير والاختيار؛ لأن العقل حين يعلق في شَرَك الدوغْمائية، يجد نفسه يقف موقف المتلقّي المنصاع، المنتظر للتعليمات.
هناك بافْلوفيّة تشرط الحراك الدوغْمائي، فللمثير استجابة، وللاستجابة باعث، والحركة والسكون يضبطهما النظام المسيِّر، والجموع من ثمة مستلبة، لا رأي لها إلا ما يرى الفرعون المتربب، وإلا ما تقرّره مشيئته وحساباته وأنانيته، وبذلك تدخل الحياة في الدائرة المغلقة، حيث لا تجدُّد هناك، ولا إبداع، ولا مسؤولية، بل التراجع والسلبية والموات.
في ظل الدوغمائية يوجَدُ مصدرٌ أعلى للشحن والتعبئة، يُنزله الدوغمائي منزلة القداسة، ينقاد لتعليماته التي هي ذاتها من طبيعة سريعة التلف والاستهلاك ولا أفق متجدد أمامها، ينفذها الفرد المنخرط (أو المحتوى) بحرفية، أي بآلية اتباعية،[4] إذ الفكر حين يتأدْلج يضحى أداءات متكلّسة، هي قوالب جوفاء أكثر منها تربة تنبت الزرع، وهو طوابع تنمط الرؤية أكثر منها روحا تحرر الذهن والإرادة، وتعاليم تجمّد المواهب أكثر منها دافعية تنشط الملكات، وتحفّز على الإبداع.
وإذا كانت الدوغْمائية تعني الخضوع الصارم للأمرية التنظيمية -حزبًا، أو سلطةً، أو معتقدًا فلسفيًّا-، فإن البراغماتية -حين تتحلل من الضابط الأخلاقي- سرعان ما تتخطى نطاق التزامها التحرّري (دعه يعمل، دعه يمر)، لتتحول -هي الأخرى- إلى آلية عمياء لاصطناع الفرص، وتصيد النهز، والرهان على المصلحة وحدها، وتحقيقها بكل الوسائل. فمنطق الحياة بالنسبة للبراغْماتية يقوم على فكر التوسع في الهيمنة والاحتياز، وهو ما أسّس للرأسمالية الغربية، إذ أفضى بها التوحش، إلى حدٍّ باتت معه تخبط إلى الكسب خبط عشواء، فلا يسلم من ضراوتها مجتمع.
- تم الإنشاء في