الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
فهرس المقال
- الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
- في أبستمولوجيا الفكر الحركي
- الفكر الإيماني
- الفلسفة الفكرية لدى كُولن
- الدين ومخاطر الوقوع في الفكر الدوغْمائي
- بين الدين والأيديولوجية
- مقومات فكر كولن
- التراث الإسلامي وأصالة الاقتراب العقلي
- قراءة في فكر كولن
- فكر الآلية، وفكر التمرس
- مكانة الفكر في رؤية كولن
- الأهداف والغايات التي سدد نحوها كولن
- الإرث القدسي المتوارث
- كولن وحديثه عن أمة القرآن
- جميع الصفحات
مكانة الفكر في رؤية كولن
الفكر عملية عقلية تؤسس للحدث الإنساني، تسبقه أحيانا، أو تصاحبه، أو تتبعه[37]، كنَوع من الملابسة الذاتية والتحرز الإجرائي والمنطقي الذي تستلزمه عملية التواصل، حتى لا يدخل الفرد في تناقض مع ذاته، وحتى يحقق هدفه وينجز مهمّة التعامل بإيجابية. فما يفكر فيه الإنسان يعيشه متلبسا به عقليًّا وكيانيًّا، فإذا كان الأمر التفكيري من جنس الأفعال الواقعية، انْساق الجسد والإرادة إلى تحقيقه عمليًّا؛ وإن كان ذهنيًّا، انساق الذهن إلى تمثله أو استخطاره على نحو ما.
يسجّل الأستاذ كولن نوعَين من الفكر يتعاطاهما الإنسان، ويحكمان نظرته إلى الحياة، وعلاقته بالكون والوجود:
1- الفكر الأصمّ، ويقصد به ذلك الفكر وليد العقل المفصول عن الغيب.
2-والفكر الرحب، وليد العقل المتواشج مع الميتافيزيقا.
أو إنْ شئْنا القول إن الأستاذ يميّز بين لونين ومنهجين من الفكر: الفكر الحسي، والفكر الروحي. الأول مغلق على ذاته، معتد بالمادة ومرتد إليها، مجانف للروح؛ والثاني موصول بالمادة معتد بالروح، معتقد في الغيب، إذ يرى أن عالم الشهود هو امتداد للماوراء، وأن الدنيا مَزْرعة للآخرة.
بفضل استنارة الفكر الفاعل، تُولَد المدنياتُ وتتجدّد الحياة، لأن الفكر البنّاء يَتقصّدُ الغايات الملموسة والمنافع الناجزة، إذ يترسم من الفرَضيات والمخططات ما هو قابل للتطبيق، فهو من ثمة فكر واقعي، استراتيجي، يُوجِّه الأنظار والإرادات إلى الكيفيات والمسالك التي تجعل أعقد المشاريع، وأشقّ الرهانات، وأكثرها إيغالا في الخيال والرومانسية، قابلاً للتحقق والتنفيد.
فأوّلية الأهداف التي يسدد نحوها الفكر الفعال هي بناء الإنسان، وأهمّ الجوانب التي يركّز عليها الجهد البنائي هو الارتقاء بالروح. ذلك لأن الإنسان هو الفاعل الأول والآخر في كل مواجهة إنجازية تترقى بها شروط المدنية، وتتسع مرافق العمران.
وللفكر صبغة عضوية، نمائية، لأنه هو كذلك يُستزرَعُ في الأرض، ويستوي مع الزمن، ويُؤتي ثماره حين الاستحصاد. وإذا ما استغْرقَتِ الفكرَ التهويماتُ الفانْتازيّة والسياحات الميتافيزيفية المفصولة عن الواقع، فسيتوحَّل في الذهانية، والوهم، والعقم، وسوء المآل.
الفكر العقيم يفضي إلى السيبة، وفي التسيّب موات المدَنية. والأمّة الإسلامية أطاح بها وضع العقم الفكري الذي عاشته بعد القرن الرابع، وجرَّف أكثر ما استنجزته من مآثر وضيئة، إذ دخلت الأمة في طور الانقسامات، وتناحُر العصب، واستنْزاف الموارد (المعنوية والمادية).. وانْضاف إلى ذلك احترافُ قصّاصو المسجد مهمّة التزهيد البليد، والتشنيع بالحياة وتَتْفِيهها، الأمر الذي وطّد روحية الكفاف والكسل والانسداد.
الفكر البنّاء محرّك مركزي للحياة، لأنه يبصِّر بالإمكاناتِ والقدرات، ويَفتح في وجه الإنسان مجالات العمل والتجدّد. تَخْضَرُّ مروجُ الفكرِ وتستجمع نضارتَها متى استقت من نهر الشريعة الرقْراق، إذ تنفُضُ عنها رمادَ الجهل وانعدام الهدَف.
لقد استطالت رقدة الأمّة، ونالت منها قرونُ عاشَتْها في كابُوسيّة الاستسلام والانتظار والانْهزام. انْخذلت الأمّة أول الأمر حين تفرّقت في عقيدتها شيَعًا، وذهبت الفرق يُكفِّر بعضُها بعضًا، ضاربة عرض الحائط بالهدف التوحيدي الذي تأسّست عليه الشريعة (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(آلِ عِمْرَان:103).. وكان منهاج السنّة النبوية وانفساح مساحة القدوة والعمل بتطبيقاتها عامل ترابط وجمْع، لكن الحطة الروحية والتعصب المذهبي وضحالة الفكر وقصر النظر فشت في الأوساط، فحوّلت الوحدة تشرذمًا، والقوة وهنًا، والجمع بددًا، وانحدرت الذهنية الخاوية إلى الهاوية وباتت -ضلالا- تحترف التكفير والتفسيق.
ثم انهزمت الأمّة تحت ضربات الأمّية والفقر والأوبئة، إذ إن دوران رَحَى الفتن يوقف عجَلة النماء، ويتلف المحاصيل، ويصيِّرُ الأرض بلقعا لا تُنبت إلا الشّوك والحسك. ثم زحفت القوى الأجنبية الحاقدة واحتلّت الديار، وانقهر سادة الأمس، وصاروا في وضع الحطة، يدفعون الجِزْية عن يدٍ وهم صاغرون.تلك هي معالم مسيرة الانحطاط كما سجلها التاريخ على الأمة.[38]
وحيال هذه التركة الشنيعة من الانتكاسات والاندحارات، ينهض الفكر المسلم المعاصر من خلال رموز آلت إليهم النوبة في تولي أمر الإمامة الروحية والوصاية المدنية والمعنوية، وانبروا يراهنون على الانبعاث والغد السعيد وإعادة الأمور إلى نصابها كرةً أخرى.. رموز وعوا الدروس واستوعبوا العبر.. عُدَّتُهم وعتادهم في هذا الرهان، الإيمان بالله واليقين من أنهم هم الأمّة التي هيّأها الله لصنع الخيرات وتحقيق المكرمات.. شعارهم الخالد: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)(آلِ عِمْرَان:110).
ومما لا ريب فيه أن على رأس هؤلاء الرموز يقف اليوم الأستاذ كولن منارة فكرية تلهم الأمل واليقين في النجح، وتبثُّ الأضواء. لقد حاز الإكبار وانصاعت له الإرادات والرجال، بما تميزت به سيرته العصماء من تبتّل وثراء روحي وقرآنية، وما اتّسمت به مشاريعه وبرامجه النهضويّة من شمول ورشدانية. ولا أدلّ على ذلك من أن بعضَ قطاعاتِها قد آذن بالإثمار والإيناع.
إن الفكر الذي يتّسم به الأستاذ كولن في إرساء دعائم النهضة، فكر منهجي معطاء. لقد اشتمل بفضل روحه القرآنية، على عناصر التجنيد والترشيد والتحدّي، واستمدّ من شريعة الإسلام السمحة القواعد والقوانين التي تتأهّل بلا منازع لإقامة المدنية المرشدة، وتأطيرها وهيكلة توسعاتها المادّية والمعنوية، والسير بها في اتّجاه يخدم الإنسانية.. إنه فكر كوني أسس على التقوى، لا يفرّق بين الأجناس والأمم، ويتوخّى الخير والصلاح للعالمين.
ومثلما أثبت الفكر القرآني في الماضي، سيثبت مستقبلا عبقريته في البناء وتحقيق الازدهار الذي لا يكبو ولا ينبو ما استقام الإنسان على الطريقة، واستمسك بالعروة الوثقى. ذلك لأن الحضارة تدوم وتنبني بالفكر المتوازن المرتكز على دعامتي الروح والمادة، وإذا خلت الحضارة من الروحانية ضمر فيها معين الرحمانية، وانعطفت بالإنسان نحو الضلال، وانحبست به العجلة في دائرة الصغار والقصور، وباءت فتوحاته ومدنياته بالكساد والثبور.
الحياة الفاضلة هي التي يقترن فيها الشكر بالذكر بالفكر، وإلاّ انحدرت بالمجتمعات إلى درك البهيمية وانعدام المثل.
من هنا كان على الإنسان أن يجعل في مقدمة أهدافه الحياتية بناءَ صرحِ فكره كي يكتمل إيمانه، فلا إيمان بلا تفكُّر وتأمُّل وتدبُّر. والفكر السليم فكر تتمازج فيه الدعامة الدنيوية والدعامة الأخروية على السواء، إذ خلق الله الآدميّين ليعبدوه وليعمروا الأرض والكون كي تتوطّد شروط الحمد وتزدهر رحاب المحامد. فالعمل الصالح عيْنُ العبادة لأنه تصديق للقلب. أما الزهد السلبي والتنصل من الواجبات، فمحظور في الشرع، ومجانف لروح العقيدة التي طفقت تقرن في المتن القرآني شرطَي الإيمان والعمل الصالح، قاعدةً لبلوغ درجة الامتثال والكمال.[39]
والحال نفسها بالنسبة للمجتمعات، فهي مطالبة ببناء فكرها، والترقّي به، وذلك يقتضيها أن تشدد على العناية بالارتكازين الروحي والمادي، الدنيوي والأخروي معًا، حتى لا تختلّ المسيرة التعميرية التي أناط الله أمرها بنا، لأن التعمير من منظور الإسلام هو الركن التطبيقي للعبادة.
- تم الإنشاء في