الشيخ فتح الله كولن وسكونية العقل المسلم
[1]
يأسى "الشيخ فتح الله كولن" لهذه السكونية التي تسكن عقل المسلم وتمنعه من الانطلاق في دنيا الله بما يحمله من إيمان وإسلام. وهو يرى في هذه السكونية نوعًا من الموت الفكري يجب على العقل المسلم أن ينأى بنفسه عنه.
فالسكونية في عالم مضطرب ومتحرك لا يتوقف أبدًا، هي نوع من الانتحار الإيماني، وشلل يُعجِزُ صاحِبهُ عن ملاحقة ما يستجدُّ في العالم من توجُّهات فكرية وروحية.
وقلب الشيخ مفعم بالأسى من أجل الجنس البشري المتلهف لسماع كلمة الحق من أفواه أهل الحق، ولكن هذه السكونية الكسول هي التي أقعدت المسلمين ومنعتهم من السير بكلمة الحق شرقًا وغربًا ليَسْمَعَهَا العالمُ كلُّه.
فالسكونية حالة بائسة مرفوضة من قبل الكون والحياة المبنيين على الحركة والتحول، لأنها على النقيض منهما، فمناكفة الكون، ومعاندة الحياة، تعودان بأشدّ الضرر على صاحب العقل السكوني، حيث يتجاوزه ركب التجديد ويخلفه وراءه منكفئًا على آلام سكونيته بخوائه الفكري وجوعه الروحي.
[2]
إنَّ مسؤولية المسلم الأخلاقية والأدبية تُحَتِّمُ عليه -كما يقول الشيخ- أَنْ ينـزع عنه ثوب السكونية، وأن يغادر أرائك الراحة والكسل المطمئن إلى غير رجعة، وأن يستبدل بهما شيئًا عظيمًا من القلق والتوتر الروحي إلى آخر مداه، وأن يضرب في الأرض حيثما تقوده قدماه، مفتّشًا عن الإنسان الذي تضنيه قضية الحياة وغاية الوجود، ويعذبه تردده بين الشك واليقين، وأن يسارع إلى مدّ يد الإنقاذ إلى أولئك الساقطين في هوة اليأس، والهاربين من وجه الله إلى غير وجه، والرافضين للحياة، والغائصين في مهاوي العبثية والرغبة في الانتحار، وكأنَّ لسان حالهم يقول: "لماذا نظلَّ أحياءً فوق هذه الأرض إذا كان القبر قد فغر فاهه لابتلاعنا في آخر المطاف...؟!"
[3]
إنَّ التحولات الإيمانية الكبرى، لا يقوى عليها إلاّ أصحاب الأرواح العظيمة القلقة المؤرقة، التي يقلقها ويؤرقها ثقل المسؤولية التي شرفهم الله تعالى بتقليدهم إياها.
والشيخ "فتح الله" يرى أن جوهر "الحضارة الإسلامية" يكمن في هذا القلق الروحي والأرق الفكري، الباعثان على التغيير على الأرض وفي الوجدان، والمحفزان على الانعتاق من سجن "المَكانية" الثقيل، والتحرر من خناقها على الذهن، والانفكاك من غِلِّها الذي تغلُّ به المسلم وتجعله يخلد إلى عتيق فهمه، ويطمئن إلى قديم علمه، بينما يلحُّ عليه في الأعماق نازع ينـزع به نحو ارتقاء عقلي أعلى، وسمو قلبي أرفع.
[4]
وإنَّ مِمَّا يثلج صدر "الشيخ"، ويدخل على قلبه الحبور، رؤيته لِثُلَّةٍ من المؤمنين وهم يضربون في معارج الرقي الروحي، ويشكلون بعروجهم هذا مفخرةً لجنس الإنسان، وإكليل مجدٍ فوق جبين البشرية، ولسان حالهم يقول: "خَلُّوا سبيلنا ودعونا نضرب في الأرض"، حاملين ذلك القبس القرآنيّ إلى أقاصي العالم... هؤلاء المؤمنون البسطاء في عظمتهم، الأقوياء في ضعفهم، الأغنياء في فقرهم، إنهم أرسخ قدمًا في دنيا الحق، وأشدُّ توقًا إلى عالم الخلود.. لا يقبلون عنه بديلاً ولا يرضَون سواه موئلاً وملاذًا.
وهؤلاء -كما يؤمل الشيخ- هم القوة التي ستوطد أركان الحقيقة الإيمانية على ظهر الأرض، يحركهم شوق عظيم لا يقاوم، ويُوْرِي زِنَادَ أفكارهم بوارق من عالم الغيب... إنّ فيهم شيئًا إِلهيًا لا يني يزور أرواحهم ليديم شعلة الروح ذاكية قوية ليكون بإمكانهم أن يغزوا قلب الليل بقوة وشجاعة.
[5]
والعجب كل العجب من هذا الكوكب الأرضي، كيف لا يتلاشى ويتمزق من الغيظ شظايا في الفضاء وهو يرى غدر الإنسان وإدباره عن ربّه وخالقه..! فإذا أقفرت الأرض من العارفين الساجدين فإنها تفقد معنى وجودها ومغزى خلقها، لا بل تفقد الحياة التي تمدها بأسباب البقاء... لأنّ الإيمان حياة، بل هو قلب الحياة، وروح الوجود، ومن دون هذا الإيمان سينتابُ الأرضَ هلعٌ رهيب يقصيها عن أمومتها لنا، واحتضانها لنا، فتتركنا في هوة أتراحنا وعذاباتنا نتجرع مرارة اختفاء إنسانية الإنسان فوق هذه الأرض، لأنّ الإنسان عنصر روحي في قالب ماديّ، فإذا فقد جوهره الروحي صارت حياته خلوًا من الحياة، وصار قالبه الإنساني خلوًا من الإنسانية.
وَإنَّ مِمَّا يؤنس الأرض ويطمئنها على مصيرها، إحساسها بأنّ على ظهرها عبقريات قرآنية تجوب آفاقها، وتبحث في أرجائها عن الإنسان التائه في شعاب "اللاّدينية" المهلكة حيث يجد من أبطال المحبّة -كما يسمّيهم الأستاذ- مَنْ يحنو عليه ويأخذ بيده إلى الطريق القرآني المشرق بالنور والأمل والسلام.
[6]
وإذا ما ماجت الروح، وطفحت الأشواق، وتعالى الوجد، واشتدّت وتيرة الإيمان، وارتفع لهب العقل، فلا شيء يمكن عندئذٍ أن يسع المؤمن، ويحدَّ من إنسيابه في عروق الأرض وشرايينها، فيأتي الحضارات يدقّ أبوابها، والمدنيات، فيَفُكّ الغازها، والبلدان والأقوام والشعوب، فيخالط وجدانها، ويأتي العقول من أبوابها، والأرواح من منافذها.
أعطني -يا صديقي- ألْفًا من الفتْيان السائرين في الصدق على قدم أبي بكر، والصُّلبين في الحق صلابة عمر، والعاشقين للقرآن عشق عثمان، والمقدمين في الملمات إقدام عليّ رضي الله عنهم أجمعين، أَفْتَح لك قلب العالم، وأُنِرْ لك ظلام الدنيا، وآتيك بالتاريخ طوعًا أو كرهًا، وأزلْزل الأفكار، وأقلب المفاهيم، وأجعل الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، وأصِل ما بين قلب الكون والإنسان، وبين روح الإنسان وروح الله..!
"لذلك نؤمن بضرورة توجيه العالم الإسلامي جميعًا إلى التجدد بكل أجزائه في فهم الإيمان، وتلقيات الإسلام. وشعور الإحسان، والعشق والشوق، والمنطق، وطريقة التفكير، وأسلوب الإفادة عن نفسه، بمؤسساته ونظمه التي تكسبه هذه الأحوال"(1).
بمثل هؤلاء "السامعين بوجدانم دومًا أناشيد الماورائية تناديهم إلى الله"(2)، يمكن للعقل المسلم أن يتحرر من سكونيته، ويخرج من شرنقته.
(*) ملاحظة مهمة: الأفكار الواردة في هذا المقال يجد القارئ أصولها في كتب الأستاذ فتح الله المترجمة للعربية وهي: النور الخالد، أضواء قرآنية، الموازين، طرق الإرشاد في الفكر والحياة، روح الجهاد وحقيقته في الاسلام، ترانيم روح وأشجان قلب، ونحن نقيم صرح الروح....
(1) ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:24.
(2) ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:132.
- تم الإنشاء في