مقدمة
مشروع "الموسوعة الكونية" جهدٌ منهجيٌّ يسعى للتعامل مع تراث الأستاذ المجدِّد محمد فتح الله كولن موسُوعيًّا؛ ويحاول أن يضع علامات في طريق البحث والدراسة والتحليل، تكون بمثابة مساعد ومرشد وموجِّه لمن أراد سبر أغوار هذا الفكر الكونيِّ المتميِّز.
ولقد أسِّست الموسوعة على الرؤية الكونية للأستاذ فتح الله؛ فكلُّ نصٍّ وكلُّ مصطلح ومفهوم يرسم علاقة بيِّنة مع إحدى العوالم الثلاثة مفردةً، أو معها مجتمعةً؛ أي أنَّ جميع ما ورد من مادة في هذا المؤلَّف يجد لها القارئ ظلا في "التصور، والحكم، والموقف" من الحقائق الكونية الثلاثة: "الله، والإنسان، والكون".. ومن هذا المدخل يجب أن تقرأ الموسوعة، وبهذا الأفق يتوجب أن يُنظر إليها.
فمثلا، نطالع هذه العبارة التي استخرجناها من الفهرست للتمثيل، والتي جاء فيها: "كلَّما شاب الزمن وشاخ، انفتحت قنوات جديدة وعروق جديدة، وتوسَّعت، وزاد سعي الإنسان، وظهرت علوم جديدة تشرح لنا أسرار الكون وغوامضه".
نلاحظ بوضوح أنَّه يعالج العلاقات الثلاثة جميعها:
مع الإنسان في قوله: "وزاد سعي الإنسان..".
مع الكون من خلال قوله: "تشرح لنا أسرار الكون وغوامضه"؛ وقبل ذلك في "كلَّما شاب الزمن وشاخ"، والزمن من أبرز معالم الكون بالطبع.
والنصُّ بجميعه يعالج العلاقة بـ"الله" -عز وجل-، وذلك بعد اكتشاف أسرار الكون وغوامضه، التي تحيل يقينا إلى الخالق الفاعل القادر، المودع تلك الأسرار والغوامض في مخلوقاته، سبحانه.
وهكذا، لو حلَّلنا المادَّة الخبرية المعروضة في هذه الموسوعة، فقرة فقرة، جملة جملة، لوجدناها متسقة منسجمة وفق هذه العلاقات؛ ولذا كان القسم الأول من الموسوعة مقالات تحليلية، وظَّفت المادة الخبرية، وركَّزت على "الرؤية الكونية" في عرضها، دون أن تشير إلى ذلك بأسلوب مباشر، بالضرورة.
وجاء القسم الثاني من هذا المؤلَّف ليستخرج "المفاهيم والمصطلحات والصيغ" التي أنتجها الأستاذ وهو يعالج موضوع الزمن والوقت، حسبما ورد في فكره وتراثه الخطابي والمكتوب؛ ولا شكَّ أنَّ تحليل هذه المصطلحات المجزَّأة ابتداءً، ثم المفاهيم المركَّبة بالخصوص، ستفتح أبوابا جديدة وجديرة لاكتشاف مدى عمق الأستاذ في معالجته لشتى المواضيع الأساسية، من أبرزها بالطبع مادة "الزمن والوقت"، موضوع هذا الجزء الأول من الموسوعة.
أمَّا القسم الثالث من الموسوعة، فهو عرض لنصوص مرجعية، تمثِّل عينة وأنموذجا للعمق الذي عالج به الأستاذ مادَّة الزمن والوقت، بزمره المختلفة. ولا شكَّ أنَّ ثمة الكثيرُ من النصوص والمقالات الأخرى التي لم يستوعبها هذا المشروع؛ ولكن يكفي أن نصوغ القالب، ونؤسِّس للمنهج في هذا العمل الأولي المتواضع؛ ولا ندَّعي الاستقراء والإحاطة البتة. ويكفي أن ننبه إلى أنَّ كتابا بعنوان "شريحة الزمن الذهبية" من تأليف الأستاذ لا يزال مطبوعا باللغة التركية، ولم يترجم بعد إلى اللغة العربية، فهو وغيره من الكتب غير المترجمة تنتظر جهودا جبارة لتفتح الباب أمام الباحثين غير العارفين باللسان العثماني، مثلي، ليقرأوا الأستاذ في كليات ما أنتج وأبدع.
ولقد أُلحق بكلِّ نصٍّ مرجعيٍّ "رشحة" تلخِّص ما ورد في ذلك النص، وتخرج العصارة بارزة؛ لعل ذلك يكوِّن مادة تدريبية، أو مادة للنشر والعرض الإعلاميِّ الخاطف؛ ثم بناء على "نموذج الرشد" الذي يبحث دوما في "العلاقة بين الفكر والفعل"، أضيفت بنود من قبيل "فلاشات الفعل الحضاري"؛ حتى لا يُتعامل مع المادة معلوماتيا فقط، وهي في الأصل محطَّة للانطلاق نحو "إعداد الإنسان الكفء الفعال، وبناء الحضارة المنشودة"؛ ولقد اختير لهذه الفلاشات عنوان هو: "الحركية والفكر".
كما حرصنا في القسم الأول على شرح خطوات تأسيس وإنجاز المشروع، فيما يشبه عمل "الجماعة العلمية"؛ ليكون ذلك نبراسا للدارسين، ومرشدا للدراسات، التي نأمل أن تبلغ يوما ما درجة العمل الجماعي الحضاري العالمي؛ ولا يكون ذلك إلاَّ بالبدء والاجتهاد؛ كما هو الحال اليوم في "الأكاديميا" باعتبارها جماعة علمية.
وأخيرا، أنبّه إلى أنَّ ما بين يدي القارئ لا يعدو أن يكون "مثالا"، و"نموذجا"، و... "قالبا"؛ يرجى أن ننحو على إثره في إطلاق "بحوث ودراسات البراديم كولن" سواء في ذلك "فكر الأستاذ"، أو "مشروع الخدمة" الذي هو ثمرة ونتيجة طيبة لهذا الفكر؛ وهي في الحقيقة من جمال الإسلام ومن حلاوته. وعلى هذا المنوال قد تصاغ أعمال حول مفكرين ومشاريع حضارية أخرى؛ "ونحن نمضي في بناء حضارتنا". والله ولي التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
د. محمد باباعمي
الأكاديميا / صبيحة الأربعاء،
- تم الإنشاء في